تُعد مصر من الدول الرائدة عالميًا في مجال الحفاظ على التراث الإنساني، إذ تمتلك إحدى أقدم وأغنى الحضارات في التاريخ. ومن أبرز المبادرات القومية في هذا الإطار مشروع المتحف المصري الكبير Grand Egyptian Museum – GEM، الذي يُمثل رؤية مصرية شاملة لإعادة تقديم الحضارة المصرية للعالم بأسلوب علمي ومعماري معاصر.
وقد جاء هذا المشروع تجسيدًا حقيقيًا لعبارة “أحفاد قدماء المصريين قادرون”، فهو ثمرة جهد مصري متكامل يجمع بين الخبرة الأثرية، والمعمارية، والإدارية، ليكون المتحف الأثري الأكبر في العالم المكرس لحضارة واحدة، ويُعد من أهم مشاريع القرن الحادي والعشرين في مجال علم المصريات.
أولًا: نشأة المشروع وأهدافه
تعود فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير إلى مطلع الألفية الجديدة، حيث أعلنت الحكومة المصرية عام 2002م عن مسابقة دولية لتصميم متحف عالمي يُجسد حضارة مصر القديمة. فاز بتصميم المشروع مكتب Heneghan Peng Architects الأيرلندي عام 2003م وبدأ التنفيذ الفعلي عام 2010م بدعم من منظمة اليونسكو وبمساهمة دولية من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي JICA.
تتمثل أهداف المشروع في:
- إنشاء مركز عالمي لعرض وتوثيق وصيانة الآثار المصرية.
- تقديم رؤية شاملة لتاريخ الحضارة المصرية من خلال تقنيات عرض حديثة.
- جعل المتحف مركزًا للبحث العلمي والتدريب المتخصص في علوم الآثار والترميم.
- الإسهام في التنمية السياحية المستدامة وزيادة الوعي الثقافي محليًا ودوليًا.
(El Daly, 2021; UNESCO, 2020)
ثانيًا: الموقع والتصميم المعماري
يقع المتحف على مساحة تقارب 500,000 متر مربع على الهضبة الغربية المطلة على أهرامات الجيزة، ويُعد موقعه امتدادًا بصريًا للهرم الأكبر.
يمزج التصميم بين العمارة الحديثة والرمزية الفرعونية، حيث تتميز الواجهة الشرقية بطابع هرمي هندسي مائل، وتُستخدم الإضاءة الطبيعية بذكاء لإبراز الطابع الروحي للحضارة المصرية.
وقد صُمم المتحف ليكون مركزًا مفتوحًا للتفاعل الثقافي، يضم قاعات عرض، ومراكز بحث، ومناطق تعليمية، وساحات خارجية تطل على الأهرامات مباشرة O’Connor, 2022).).
ثالثًا: المقتنيات وقاعات العرض
يضم المتحف أكثر من 100,000 قطعة أثرية تغطي مراحل التاريخ المصري منذ عصور ما قبل الأسرات حتى العصرين اليوناني والروماني.
من أبرز قاعاته:
قاعة توت عنخ آمون: التي ستضم لأول مرة المجموعة الكاملة للملك الذهبي (حوالي 5,000 قطعة) التي اكتُشفت عام 1922م.
الدرج العظيم Grand Staircase: ويُعرض فيه أكثر من 80 تمثالًا ضخمًا للملوك والآلهة.
قاعة النيل: تشرح العلاقة بين النهر والحياة الزراعية والدينية في مصر القديمة.
منطقة المتحف التفاعلي: تستخدم تقنيات الواقع المعزز والتصوير ثلاثي الأبعاد لشرح الممارسات اليومية في مصر القديمة (Aly & Ikram, 2023).
رابعًا: مركز الترميم والصيانة
يُعد مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط وأفريقيا.
يضم 19 معملًا متخصصًا في مجالات مختلفة مثل ترميم الأخشاب، والبرديات، والمعادن، والمومياوات، والمواد العضوية.
ويستخدم المركز أحدث التقنيات التحليلية، منها التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء والمجهر الإلكتروني الماسح SEM والأشعة السينية المفلورةXRF لتحديد مكونات الآثار قبل الترميم (Hassan et al., 2022).
يُعد هذا المركز مثالًا للتكامل بين العلم والتقنية الحديثة في صيانة التراث الإنساني.
خامسًا: البعد الثقافي والاقتصادي
يمثل المتحف المصري الكبير أحد ركائز الدبلوماسية الثقافية المصرية، حيث يسهم في تعزيز الحوار بين الحضارات وإبراز الدور الريادي لمصر في حفظ التراث الإنساني.
كما أنه مشروع استثماري وثقافي متكامل، إذ من المتوقع أن يجذب أكثر من 5 ملايين زائر سنويًا بعد الافتتاح الكامل، ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني والسياحة الثقافية المستدامة (Ministry of Tourism and Antiquities, 2024).
يضم المتحف أيضًا مسرحًا وقاعة مؤتمرات ومكتبة علمية متخصصة في علم المصريات، مما يجعله مركزًا متكاملًا للبحث والتعليم والترفيه الثقافي.
سادسًا: الرمز الحضاري لعبارة “أحفاد قدماء المصريين قادرون”
إن إنشاء المتحف المصري الكبير ليس مجرد مشروع بنية تحتية، بل هو بيان حضاري ورسالة وطنية تؤكد أن المصريين المعاصرين هم الامتداد الطبيعي لأسلافهم بناة الأهرام.
فكما بنى الأجداد معابدهم ومسلاتهم بحرفية مدهشة، يبني الأحفاد اليوم مؤسسات علمية وثقافية تُعيد تقديم الحضارة المصرية للعالم بلغته المعاصرة.
هذا المتحف يجسد الهوية الوطنية المصرية القائمة على العلم والإبداع والمسؤولية التاريخية تجاه التراث الإنساني (O’Connor, 2022; Ikram, 2023).
الخاتمة
إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مخزن للآثار، بل رمز وطني عالمي يربط الماضي بالحاضر والمستقبل. لقد استطاع المصريون أن يُثبتوا للعالم أنهم قادرون على إدارة مشروع بهذا الحجم وفق أعلى المعايير العلمية والهندسية.
وهو تجسيد فعلي لشعار: «أحفاد قدماء المصريين قادرون» علمًا، وإبداعًا، ووفاءً للحضارة الأم التي أضاءت طريق الإنسانية منذ آلاف السنين.
المراجع العلمية
- El Daly, O. (2021). Preserving Egypt’s Heritage: The Grand Egyptian Museum Project. Cairo: Ministry of Tourism and Antiquities.
- O’Connor, D. (2022). Designing the Grand Egyptian Museum: Architecture and Heritage in the 21st Century. Journal of Egyptian Archaeology, 108(2), 145–162.
- Aly, M., & Ikram, S. (2023). Conservation and Innovation in the Grand Egyptian Museum. Annales du Service des Antiquités de l’Égypte, 97, 55–78.
- Hassan, A., et al. (2022). Advanced Analytical Techniques in Conservation at the Grand Egyptian Museum. Heritage Science Journal, 10(4), 223–241.
- (2020). Grand Egyptian Museum: Safeguarding the Past for the Future. Paris: UNESCO Publications.
- Ministry of Tourism and Antiquities (Egypt). (2024). Official Guide to the Grand Egyptian Museum. Cairo: Government Press.
Abstract
The Grand Egyptian Museum (GEM) stands as one of the most ambitious cultural and archaeological projects of the 21st century, reflecting Egypt’s enduring commitment to preserving and interpreting its ancient heritage. Located on the Giza Plateau, in visual alignment with the Great Pyramid, GEM occupies an area of nearly 500,000 square meters and houses more than 100,000 artifacts that narrate the evolution of Egyptian civilization from the Predynastic Period to the Greco-Roman era. Designed by Heneghan Peng Architects** and developed in collaboration with UNESCO and JICA, the museum integrates modern architectural vision with ancient Egyptian symbolism.
Among its most remarkable features are the Grand Staircase, displaying colossal royal statues, and the Tutankhamun Gallery, which for the first time exhibits the complete collection of the young king’s treasures. GEM also hosts one of the world’s largest conservation and restoration centers, equipped with advanced analytical technologies such as XRF, SEM, and FTIR spectroscopy for artifact preservation and study.
Beyond its museological significance, GEM represents a national symbol of cultural identity and sustainable development, serving as a hub for research, education, and international collaboration. It embodies the spirit of continuity between Egypt’s glorious past and its innovative present — a living testament that the descendants of the ancient Egyptians are indeed capable, scientifically, culturally, and civilizationally.
الأستاذ الدكتور/ مجدي فاروق السماحي
أستاذ النانوتكنولوجي ووقاية النبات – معهد بحوث وقاية النباتات – مركز البحوث الزراعية
وكيل محطة البحوث الزراعية بسخا الأسبق
رئيس فرع الاتحاد العربي للتنمية المستدامة والبيئة بكفر الشيخ
مسئول برنامج مطبقي المبيدات بمحافظة كفر الشيخ
المشرف العلمي لدودة الحشد الخريفية بمحافظة كفر الشيخ
عضو مجلس إدارة جمعية مجلس علماء مصر
عضو لجنة أخلاقيات البحث العلمي بجامعة كفر الشيخ
مستشار مجلس إدارة المجلة العلمية أهرام قسم العلوم
أمين حزب حماة الوطن بكفر الشيخ الأسبق
اقرأ أيضا











