يهودي في القاهرة هو عنوان الكتاب الوحيد الذي ألفه المحامي اليساري شحاتة هارون، ليجمع فيه مقالاته وخطابته، واللقاءات الصحفية التي أجريت معه، وبعض من ورقات دراساته البحثية، متضمن بين دفتيه آراءه ومواقفه تجاه عدد من القضايا الهامة على الصعيد الإقليمي والدولي والإنساني بشكل عام.
ومن خلال صفحات الكتاب ستتعرف على رأيه في الحركة الصهيونية وموقفة من دولة إسرائيل، وما تمثله له القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، ورأيه في الأنظمة العربية، وشهادته عن هجرة يهود مصر، وفي القلب من كل هذا قضية عمره حق الشعوب في تقرير المصير ومواجهة النظم الاستعمارية، ورفضه هيمنة النظم الرأسمالية على مصائر الطبقات العمالية.
تقرأ في هذا الموضوع
فمن يكون؟
ولد شحاته هارون في عائلة يهودية لأبوين مصريين من أصول مصرية سورية عام 1920م، درس الحقوق واشتغل بالمحاماة في قضايا التوثيق وبراءات الاختراع، وافته المنية في عام 2001م عن عمر يناهز 81 عام.
بدأت مسيرة نشاطه السياسي في أربعينيات القرن العشرين حين أنضم إلى التنظيمات الشيعوية إثناء دراسته الجامعية، وأسس مع رفاقه في اليسار المصري “الرابطة الإسرائيلية للكفاح ضد الصهيونية”، كما انضم في عام 1963م إلى “الاتحاد الاشتراكي العربي”، واختتم مسيرته السياسية في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي فكان من الأعضاء المؤسسين للحزب منذ تأسيسه عام 1976م.
سجين كل العصور
أعتقل في عهد الملكية مرة وفي عهد الجمهورية مرات، كانت المرة الأولى عام 1946م في قضية لفقتها له حكومة صدقي باشا، وكانت الثانية عام 1967م ويذكر هارون في كتابة أن السبب وراء اعتقاله هو الخطاب الذي أرسله إلى الرئيس عبد الناصر يشرح له فيه وضعه ووضع باقي اليهود في مصر، ويطلب منه ضرورة الاستعانة والاستفادة بكل مواطن مصري بغض النظر عن دينه أو عرقه، واعتقل للمرة الثالثة عام 1975م بدعوة التشكيك في ولائه، والرابعة عام 1977م إثر انتفاضة الخبز، والخامسة كانت عام 1979م بسبب رفضه ومعارضته لاتفاقية “كامب ديفيد”.
فكيف رأى “هارون” الحركة الصهيونية والدولة الإسرائيلية؟
يقول هارون: ينبغي علينا أن نشير إلى أن الصهيونية بتياراتها ولدت في أوروبا وصدرت إلى الشرق الأوسط بواسطة الاستعمار وهي تمثل نزعة برجوازية صغيرة سلفية.
كما أكد هارون على الفرق بين الحياة التي عاشها يهود أوروبا وما مروا به وشاهدوه وبين ما عاشه يهود الشرق في الأقطار العربية فيقول: لقد عاش اليهود في ظل الدول الإسلامية مواطنين على قدم المساواة مع غيرهم فصبوا كل ثمار عقولهم في تيار الحضارة الإسلامية العام، وقد حملني هذا على أن أرفض كل فكرة تجعلني مختلفا عن بني وطني أو منفصلا عنهم، ومن هنا نشأت كراهيتي للفكرة الصهيونية.
فما هي الأسباب والعوامل إذن التي دفعت يهود الأقطار العربية على ترك بلدانهم وأوطانهم والاستيطان في فلسطين متقاضين بيهود أوروبا الذين فروا من بلدانهم التي سلمتهم لقمة سائغة لهتلر على حد تعبير أحدهم؟
فيجيب هارون في صفحات كتابة ويقول: أن الحكومات العربية ومنذ قيام إسرائيل قد عمدت إلى مدها بالطاقة البشرية عن طريق إرغام مواطنيها اليهود على ترك أوطانهم، وبذلك أمدوا إسرائيل بنحو 60% من عتادها وطاقتها البشرية
وأكد على أن الحكومات العربية قدمت هذا العون للمؤسسة الصهيونية عن وعي وإدراك منها، في ظل مؤامرة مكتملة الأركان بين الاستعمار والأنظمة العربية.
وقد دلل على كل ما ذكره في كتابه من خلال الوقائع والأحداث والقرارات التي صدرت حينها.
فيذكر هارون أن الإساءة لليهود في مصر بدأت من 1942م إلى عام 1948م باتباع بعض الأساليب مثل وضع العراقيل أمام اليهود المصريين من أجل الحصول على الجنسية ، مما أغلق سبل العيش أمام غالبية من لا يملك إثبات هوية، مع حملات على صفحات الجرائد وقنوات الإذاعة تهاجم اليهود وتصفهم بالصهاينة وتسفه وتحقر من الدينة اليهودية.
ويقول هارون في عام 1948م تم وضع اليهود في المعتقلات دون تمييز في النزعة السياسية أو حتى انعدامها وخلال فترة الاعتقال التي تخطت العامين خيروا بين البقاء في السجن أو مغادرة البلاد، وصدر قرار بإخلاء اليهود من شققهم التي تقرب من أو تطل على المباني الرسمية، وقد تم إلغاء القرار بعد يومين من صدوره نتيجة ضغط الدول الأوربية.
كما وضعت أموال معظمهم تحت الحراسة أسوة بأموال الفرنسيين والإنجليز والاستراليين دون تمييز بين الصهيوني وغير الصهيوني، ومنح أصحاب العمل الحق في فصل عمالهم وموظفيهم من اليهود عن أعمالهم بأمر عسكري (4/1948) وقد فصل منهم من كان يعمل لدى المنشآت الخاضعة لتدابير الحراسة وغيرها، لينتج عن هذا الهجرة الجماعية الأولى.
ويذكر هارون أنه من 1950م إلى 1955م بناء على توصيات “سرية” أصدرتها جامعة الدول العربية من أجل الضغط على اليهود في الأقطار العربية حتى يغادروها مغادرة نهائية أن لا يقبل طلب من يرغب في السفر إلا إذا كان ذهاب بلا عودة، و تسحب من المتقدم وثيقة السفر المصرية إن كان متمتعا بها أو بطاقة الإقامة إذا كان أجنبيا، و يطلب من المتقدم التوقيع على طلب التنازل عن جنسيته المصرية، فيسلم تذكرة مرور عليها تأشيرة مغادرة نهائية، و بعد فترة من السفر يصدر وزير الداخلية قائمة بأسماء من سافروا وينذرهم بأسقاط الجنسية المصرية عنهم ما لم يعودوا خلال مهلة يحددها القرار مع ملاحظة أن القرار صادر بمصر ولا يعلن عنه في الخارج، وأن أولئك الذين علموا بصدور القرار وتقدموا لقنصليات مصر بطلب العودة رفض النظر في طلباتهم.
ومع وقوع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م تم اتباع إجراءات أشدت تعسفا كان من ضمنها اعتقال النساء في سابقة غير معهودة، لينتج عن هذا الهجرة الجماعية الثانية.
ويذكر هارون أنه في عام 1961م تم فرض الحراسة على من تبقى من تجار اليهود في مصر، وكان غالبيتهم من صغار ومتوسطي التجار، فصدر الأمر العسكري رقم 138/1961 بوضع أموال كبار الملاك من المصريين تحت الحراسة، وكانت نسبتهم في القوائم عالية جدا، وكان ضباط المباحث كلما ساروا في الشوارع ووجدوا محلا مملوكا ليهودي سارعوا إلى إضافته لتلك القوائم.
نكسة 1976م
يقول شحاته هارون كان شائعا قبيل اندلاع هذه الحرب أن في حال نشوبها سوف يتم إلقاء القبض على اليهود جميعا.
وبالفعل قبض على كل من تبقى في مصر من اليهود بين 350 و 370 فردا وكالمعتاد استثني منهم أولئك الذين تربطهم بالسلطات صلات خاصة من مهربي النقد والمعروفين بعلاقاتهم بالمؤسسات الصهيونية.
وتمت الضغوط لإرغام هذه البقية الباقية على السفر، ولم يبقى سوى تسعة أسر فقط رفضت الرحيل وصمدوا ونجحوا في البقاء داخل مصر.
ولا ينسى هارون أن يذكر في كتابه “يهودي في القاهرة” شهادته في حق شعب مصر فيقول: إن شعب مصر براء تماما وكلية من كل ما عاناه أبناؤه من اليهود، فقد عانى الشعب بطوائفه ومنذ آلاف السنين من قهر لا يؤهله بعد للدفاع عن حقوق أقلياته وهو المحروم من أبسط الحقوق.
يتبع..
رامي أبو راية
مخرج وسيناريست
متخصص في الأنثروبولوجيا البصرية