نحتفل في التاسع من سبتمبر من كل عام بـ “عيد الفلاح المصري”، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى صدور قانون الإصلاح الزراعي في عام 1952. لا يمثل هذا اليوم مجرد مناسبة رمزية للتكريم، بل هو اعتراف مؤسسي وعلمي بالدور الاستراتيجي الذي يلعبه الفلاح كحجر زاوية في الأمن القومي الشامل وتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي أطلقتها الأمم المتحدة. يسلط هذا المقال العلمي الضوء على هذا الدور محاولاً ربط الجهد الظاهري للفلاح بالتأثيرات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية العميقة.
- الدور الاقتصادي والاجتماعي: أساس تحقيق الأمن الغذائي والحد من الفقر
يمثل القطاع الزراعي، الذي يقوده الفلاح المصري، أحد أهم دعائم الاقتصاد القومي. وفقاً لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حيث يساهم القطاع الزراعي بما يقرب من 11.3% من الناتج المحلي الإجمالي (حسب إحصاءات 2022/2023)، ويوفر فرص عمل لنحو 23% من إجمالي القوى العاملة في مصر، معظمهم في الريف (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 2023). هذا يجعل من الفلاح عنصراً فاعلاً رئيسياً في تحقيق الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة (القضاء على الفقر) والهدف الثامن (العمل اللائق ونمو الاقتصاد).
أما على صعيد الهدف الثاني (القضاء التام على الجوع)، فإن دور الفلاح هو دور وجودي. فمن حقول القمح والذرة إلى بساتين الفاكهة والخضروات، ينتج الفلاح الغذاء الذي يطعم أكثر من 100 مليون مصري. على الرغم من التحديات الكبيرة المتعلقة بندرة المياه والمساحة الزراعية المحدودة، إلا أن إنتاجية الفدان الواحد شهدت تحسناً ملحوظاً بفضل جهود المزارع المصري وتبنيه لأصناف جديدة محسنة، مما ساهم في رفع درجة الأمن الغذائي للدولة (منظمة الأغذية والزراعة FAO، 2021).
- الفلاح المصري والزراعة المستدامة: التكيف مع التحديات البيئية
تواجه الزراعة المصرية تحديين رئيسيين: ندرة المياه والتغير المناخي. هنا، يبرز دور الفلاح في تبني ممارسات الزراعة المستدامة التي تُعرف بأنها “إدارة النظم الزراعية الطبيعية بشكل يحفظ الأرض والماء والموارد الوراثية النباتية والحيوانية، ولا يضر بالبيئة، ويكون مقبولاً من الناحية التقنية وملائماً اقتصادياً” (منظمة FAO).
ترشيد استهلاك المياه: يشكل تحويل نظم الري من الغمر إلى نظم الري الحديث (التنقيط والرش) أولوية قومية. يلعب الفلاح دور الشريك الأساسي في نجاح هذه الاستراتيجية. تشير الدراسات إلى أن نظم الري الحديثة يمكن أن توفر ما يصل إلى 40% من كميات المياه المستخدمة مقارنة بالري بالغمر (مركز البحوث الزراعية، مصر، 2022). هذا يتوافق مباشرة مع الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة (المياه النظيفة والنظافة الصحية).
التكيف مع التغير المناخي: يتحمل الفلاح العبء الأكبر لظواهر الارتفاع في درجات الحرارة والظواهر الجوية المتطرفة، حيث يتم تشجيعه على تبني أصناف من المحاصيل متحملة للجفاف والملوحة (مثل أصناف الأرز الجديدة التي تستهلك مياهاً أقل)، وتطبيق الإدارة المتكاملة للآفات (IPM) للحد من استخدام المبيدات الكيميائية، مما يحافظ على صحة التربة (الهدف الخامس عشر: الحياة في البر) ويضمن سلامة الغذاء.
الاقتصاد الدائري وتدوير المخلفات: يتحول الفلاح المصري بشكل متزايد إلى الاستفادة من مخلفات المحاصيل والتي نستطيع أن نطلق عليها المنتجات الثانوية (مثل قش الأرز) لتحويلها إلى أسمدة عضوية (كمبوست) أو علف للحيوان، بدلاً من حرقها الذي يسبب تلوثاً للهواء (السحابة السوداء). هذه الممارسات تدعم الهدف الثاني عشر (الاستهلاك والإنتاج المسؤولان).
- التحديات وسبل الدعم: نحو تمكين حقيقي للفلاح
لا يزال الفلاح المصري يواجه تحديات كبيرة تعيق إمكاناته الكاملة في دفع عجلة التنمية المستدامة. وتشمل هذه التحديات: صغر الحيازة الزراعية، وصعوبة الوصول إلى التمويل والتكنولوجيا بأسعار مناسبة، وتقلبات الأسعار، وتأثيرات تغير المناخ.
لضمان استمرار دوره المحوري، يجب تعزيز أوجه الدعم من خلال:
- التوسع في برامج الإرشاد الزراعي لنقل التكنولوجيات الحديثة والممارسات الذكية مناخياً.
- دعم وتشجيع إنشاء التعاونيات الزراعية** لتحقيق اقتصاديات الحجم وتسهيل الوصول إلى الأسواق.
- الاستثمار في البحوث التطبيقية (توجه في مركز البحوث الزراعية) التي تطور حلولاً تلائم الظروف المصرية.
- ربط السياسات الزراعية بشكل مباشر بأهداف التنمية المستدامة، ووضع مؤشرات أداء لقياس مساهمة الفلاح في تحقيقها.
وختاماً فإن يوم الفلاح المصري هو أكثر من عيد؛ إنه مناسبة للتأكيد على أن مسيرة التنمية المستدامة في مصر لا يمكن أن تتحقق دون تمكين الفلاح علمياً واقتصادياً واجتماعياً. إنه شريك استراتيجي في معركة الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ والحفاظ على الموارد الطبيعية. الاستثمار فيه هو استثمار في مستقبل أكثر استقراراً وأمناً وازدهاراً للجميع، وهو الضامن الحقيقي لتحقيق شعار “لا تنمية مستدامة دون فلاح مستدام”.
المراجع والمصادر:
- الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. (2023). *النشرة السنوية للإحصاءات الزراعية 2022/2023*. جمهورية مصر العربية.
- منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO). (2021). *Country Programming Framework for Egypt (2021-2025)*.
- وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، مركز البحوث الزراعية. (2022). *تأثير نظم الري الحديث في ترشيد استهلاك المياه وإنتاجية المحاصيل* (سلسلة تقارير فنية).
- United Nations. (2015). Transforming our world: the 2030 Agenda for Sustainable Development. A/RES/70/1.
- World Bank. (2020). Egypt – Agriculture and Rural Development Review.
مقال
الأستاذ الدكتور/ مجدي فاروق السماحي
أستاذ النانوتكنولوجي ووقاية النبات – معهد بحوث وقاية النباتات – مركز البحوث الزراعية
وكيل محطة البحوث الزراعية بسخا الأسبق
رئيس فرع الاتحاد العربي للتنمية المستدامة والبيئة بكفر الشيخ
مسئول برنامج مطبقي المبيدات بمحافظة كفر الشيخ
المشرف العلمي لدودة الحشد الخريفية بمحافظة كفر الشيخ
عضو مجلس إدارة جمعية مجلس علماء مصر
عضو لجنة أخلاقيات البحث العلمي بجامعة كفر الشيخ
مستشار مجلس إدارة المجلة العلمية أهرام قسم العلوم
أمين حزب حماة الوطن بكفر الشيخ الأسبق