إن اتفاقية باريس هي اتفاقية دولية بارزة بشأن المناخ تم تبنيها من قبل معظم دول العالم فى عام 2015 في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP 21) بباريس- فرنسا لمجابهة تغير المناخ وآثاره السلبية.
تَهدف الاتفاقية إلى الحد بشكلٍ كبير من انبعاثات الغازات المُسببة للاحتباس الحرارى العالمى فى محاولة للحد من الاحتباس الحرارى العالمي إلى “أقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية” مع مواصلة الجهود للحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
كما وتَشمل الإتفاقية الجوانب الهامة التالية:
الحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية من خلال الحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى.
تَوفير إطار للشفافية والمساءلة.
مراجعة التزامات البلدان بخفض الانبعاثات كل خمس سنوات من خلال المساهمات المحددة وطنيًا (NDCs).
تَوفير وتعبئة التمويل المُناخى للدول النامية لدعم جهود التخفيف والتكيف.
الإنسحاب الأول من إتفاقية باريس
مع تزايد وتيرة وشدة الكوارث المناخية من حرائق الغابات المدمرة إلى الأعاصير التي لا هوادة فيها إلى موجات الحر القياسية، اتخذت إدارة ترامب مرةً أخرى خُطوة تُهدد بتعميق أزمة المناخ ألا وهى الإعلان رسميًا عن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمرة الثانية، حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي تم انتخابهِ فى فترة رئاسته الأولى في نوفمبر من العام 2016 انسحاب الولايات المتحدة الأول من اتفاقية باريس، وطبقا للمادة رقم 28 باتفاقية باريس والتى تنص على أنه “يتعين على أي دولة تسعى إلى الانسحاب من الاتفاقية أن تنتظر ثلاث سنوات بعد التصديق عليه لتقديم إشعار رسمى ثم تخدم فترة انتظار إضافية لمدة عام واحد قبل أن يدخل الانسحاب حيز التنفيذ رسميًا”.
وعلى الرغم من إعلان الرئيس ترامب في البيت الأبيض في يونيو 2017 الإنسحاب من الإتفاقية، إلا أن الانسحاب دخل حيز التنفيذ في 4 نوفمبر 2020 أى بعد يوم واحد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 والتى أسفرت عن خسارته، ثم عَادت الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى على يد الإدارة الأمريكية الجديدة انذاك بقيادة بايدن فى 19 فبراير 2021، إلا أن هذا الغياب القصير في نهاية المطاف عن اتفاق باريس نحو أقل من أربعة أشهر كافيًا لتعطيل دبلوماسية المناخ العالمية وتشويه مصداقية الولايات المتحدة على المسرح العالمى.
وفي خضم أزمة مناخية مُتصاعدة تقلب سبل العيش والحياة رأسًا على عقب يُثير هذا القرار أسئلة مُلحة حول مستقبل التقدم الوطنى والعالمى فى مفاوضات تخفيض الإنبعاثات ووقفها عند 1.5 درجة مئوية.
وعلى وجه التحديد ماذا يعنى انسحاب أكبر دولة مسببة للانبعاثات تاريخيًا في العالم وثانى أكبر ملوّث في العالم بعد الصين من على طاولة المفاوضات بالنسبة للجهود الدولية الرامية إلى مكافحة تغير المناخ؟ وما هي العواقب المترتبة على ذلك بالنسبة للشعب الأمريكى نفسه الذين يواجه بالفعل التكاليف المتزايدة المترتبة على ارتفاع درجة حرارة الكوكب؟
الإنسحاب الثانى من إتفاقية باريس
إن قرار الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب مرة أخرى من الإتفاقية وذلك بموجب أمر تنفيذي وقعه يوم الاثنين 20 يناير 2025، كأحد أول إجراءاته بعد توليه منصبه لا يَعكس بالضرورة فشل اتفاق باريس بل يُشير إلى تَخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن دورها القيادى فى هذا الموقف الصعب والآن تَنضم الولايات المُتحدة الأمريكية إلى دول إيران وليبيا (دول نفطية) واليمن باعتبارها الدول الوحيدة فى العالم بأسره التى لم تَنضم إلى إتفاق باريس عام 2015.
مع إعلان الرئيس ترامب انسحاب الولايات المتحدة مرة ثانية من اتفاقية باريس أصبح من المستحيل تجاهل أصداء انسحابه الأول وكذلك العواقب المترتبة عليه، فخلال فترة ولايته الأولى أوفى ترامب بوعده الانتخابي بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس التاريخية مما جعلها الدولة الوحيدة في العالم التي تنسحب من الاتفاقية على الإطلاق. لقد خلفت تكاليف الانسحاب الأول ندوباً لم تلتئم بعد بالكامل فقد أوقفت إدارة ترامب مُساهماتها في تمويل المناخ الدولى بما في ذلك صندوق المناخ الأخضر. ومن خلال وقف المدفوعات التى تم التعهد بها من قبل إدارة الرئيس اوباما لصندوق المناخ الأخضر حَرمت إدارة ترامب الدول النامية من الموارد الحيوية للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها وهو ما لم يعيق التقدم في البلدان النامية الأكثر هشاشة فحسب بل أدى أيضًا إلى تقليص الثقة العالمية في الولايات المتحدة كشريك موثوق فيه.
إن إعلان ترامب الانسحاب مرة أخرى من اتفاقية باريس يُمثل عودة صارخة إلى الأنانية في وقت تشتد فيه الحاجة إلى التعاون العالمى، وعلى النقيض من انسحابه الأول الذي استمر عدة سنوات فإن هذا الإنسحاب يأتى بسرعةٍ مخيفة فهى مجرد فترة انتظار مدتها 12 شهرًا حتى يُصبح الانسحاب رسميًا.
وعلاوة على ذلك أشار فريق ترامب إلى أن هذا الانسحاب قد يَذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مع المناقشات حول التخلى عن اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ بالكامل، وهى خطوة من شأنها أن تُجمد الولايات المتحدة الأمريكية خارج مفاوضات المناخ العالمية المستقبلية وتُجردها من أى تَأثير في تشكيل السياسة المناخية الدولية كما وتَعوق الجهود الرامية إلى محاسبة كبار المسؤولين عن الانبعاثات مثل الصين والهند الخ، كما انها تفتح الباب لتشجيع دول أخرى من أن تحذو حذوها وتتنصل من مسؤوليتها تجاه المناخ مما قد يؤدى إلى إحداث تأثير مضاعف من شأنه أن يعرقل التقدم الجماعى البسيط الذي تم إحرازه فى الإلتزمات المناخية.
ومن المعلوم أن العِقد المقبل يُشكل الفرصة الأكثر أهمية بل يُمكنا القول الفرصة الأخيرة للحد من ظاهرة الاحتباس الحرارى العالمي، إلا أن عواقب التَقاعس الفيدرالي سوف تتجلى في كل ركن من أركان البلاد، فأمريكا الآن تدفع ثمن التغيرات المناخية والتى تَتَمثل فى تَزايد الأعاصير والتسبب في فيضانات مدمرة وتأجيج حرائق الغابات كما يَتضح من الدمار الأخير في لوس أنجلوس. إن هذه الأحداث المناخية المُتطرفة تُكلف الولايات المتحدة أكثر بكثير من 100 مليار دولار سنويا بل وحتى أكثر من 300 مليار دولار سنويًا، مما يُؤدى إلى تشريد الآلاف من الأسر وفى نهاية المطاف يُكلف الناس حياتهم وسبل عيشهم.
تُعاني الولايات المتحدة على الرغم من كل ثروتها وقوتها بالفعل من الآثار المبكرة لتغير المناخ ومن خلال ما أقدمت عليه الإدارة الأمريكية حيث ضُربت باتفاقية باريس عُرْضَ الحائط، وما بترتب عليه من خطر داهم مما يُعرض الشعب الأمريكى بل شعوب العالم أجمع لخطر أعظم فى الجولة التالية من الكوارث الرهيبة.
ففي ظل إدارة ترامب والسياسات المتبعة ضد أزمة التغيرات المناخية فمن المتوقع أن تَرتفع مستويات انبعاثات الغازات المُسببة للاحتباس الحراري في الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 36% أعلى عن المستويات الناتجة من السياسة الحالية المتبعة بحلول عام 2035، وقد تشمل التأثيرات المحلية أيضًا ارتفاع تكاليف الطاقة المنزلية وزيادة الاعتماد على النفط والغاز المستوردين.
وعلى الرغم من مدى الدمار الذى قد يخلفه هذا القرار أو غيره من القرارات الغير مدروسة ومدى خطورة التهديدات فإنها ليست مُستعصية على الحل، فالعمل الوطنى المناخى من قبل المواطنون والشركات والمجتمع المدنى والبحث العملى للتحول من الوقود الإحفورى إلى الطاقة النظيفة قادر الى حد كبيرمن توفير الأساس المتين للأمل فى الحصول على مستقبل أفضل، ولكن الأمل وحده لا يكفى بل يجب أن يُصاحبه عمل لا هوادة فيه ومُساءلة لا تتزعزع والتزام مشترك بالوفاء بمسؤولياتنا – ليس فقط تجاه أنفسنا ولكن تجاه العالم والأجيال القادمة.
مقال
إتفاقية باريس للتغيرات المناخية بين الماضى والحاضر والمستقبل
ا.د/ عاصم عبد المنعم أحمد محمد
استاذ إقتصاديات التغيرات المناخية
ورئيس قسم بحوث الأرصاد الجوية الزراعية
المعمل المركزى للمناخ الزراعى- مركز البحوث الزراعية