يُعقد حاليًا مُؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ لعام 2024 فى دورته التاسعةِ والعشرين في مدينة باكو في أذربيجان لمدة أسبوعين خلال شهر نوفمبر الجارى.
ولا زالت إحدى القضايا الرئيسية وعلى رأس اجندة الإجتماعات لكافة دورات مُؤتمر الأطراف للتغيرات المناخية منذ نحو 9 سنوات حتى الآن قيد المناقشة وتَتَمثل فى كيفية تَوفير المزيد من الأموال للدول الأكثر فقرًا لمساعدتها على الحد من انبعاثات الغازات المُسببة للاحتباس الحراري والتَعامل مع التأثيرات المُتزايدة والمُدمرة لتغير المناخ مع اتخاذ إجراءات مناخية أقوى بكثير عما عليه وبناء مُجتمعات قادرة على الصمود، وذلك فى ظل ما تواجهه العديد من البلدان الفقيرة من مستويات غير مسبوقة من الديون والتى تَجعلها غير قادرة على الاستثمار في الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية والبطالة والتضخم الخ، ناهيك عن التدابير التي من شأنها أن تُؤدى إلى الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون.
وكما هو الحال دائمًا في مُؤتمرات المناخ منذ نشأتها فى العام 1995 فى مدينة برلين بألمانيا سيكون هناك جدول مُزدحم بالمفاوضات والخطب والمُؤتمرات الصحفية والإجتماعات واللقاءات التلفزيونية وحلقات نقاشية والتغطيات الإعلامية فى مقر المؤتمر، مقسمةً إلى منطقة خضراء تُشرف عليها رئاسة المؤتمر ومفتوحة لعامة الناس ومنطقة زرقاء تُديرها الأمم المتحدة وهو المكان الذى يُدير كافة تفاصيل المفاوضات وإصدار التعهدات والإتفاقيات الخ.
فعلى سبيل المثال لا الحصر عام 2015 في مؤتمر الأطراف فى دورته الحادية والعشرين بباريس، تم التوصل إلى اتفاق مناخي تاريخي وافقت فيه أغلب الدول فى المادة الثانية للاتفاقية على خفض ظاهرة الاحتباس الحرارى إلى أقل بكثير من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية ومتابعة الجهود الرامية الى حصر إرتفاع درجة الحرارة فى حد لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية.
وحتى الآن فإن التقدم المحرز فى تنفيذ هذا البند من بنود الإتفاقية لم يؤتى بثماره على الرغم من الأهمية الشديدة لعنصر الوقت.
ومما لاشك فيه أن عنصر الإرادة السياسية والمجتمعية هو المُنقذ للبشرية من هذا الوحش الفتاك، ففى إجتماع زعماء العالم على كلمة واحدة فاصلة لإنقاذ الموقف دون النظر إلى الحسابات الشخصية والسياسية والإقتصادية هو بداية العودة من هذا الطريق المُوحش ذو الظلام الدامس، وهو الأمر الذى لم يَحدث فى هذا الإجتماع الجارى باذربيجان حيث تغيب كبار زعماء الدول الثلاث عشرة الأكثر تلوثاً بغازات الإحتباس الحرارى ــ وهي المجموعة المسؤولة عن أكثر من 70% من الغازات المسببة للاحتباس الحراري والتي انبعثت العام الماضي.
وهو ما أشار إليه رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو خلال كلمته في قمة الزعماء “الأشخاص المسؤولون عن هذا غائبون، وليس هناك ما يدعو للفخر”.
وتغيب عن الحضور زعيمى أكبر دولتين إقتصاديا وأكثرهم تلويثًا للبيئة (الصين والولايات المتحدة الأمريكية) كما تغيب أيضًا رئيس وزراء الهند ورئيس إندونيسيا. وما يدعو للدهشة ويُفسر غياب الإرادة السياسية للتحرك والفوضى المُطلقة التى يَعيشها العالم أجمع هو تغيب زعماء هذه الدول الأربع والتى تُعتبر الأكثر اكتظاظًا بالسكان فى العالم حيث يعيش فيها أكثر من 42% من سكان العالم.
كما وتغيب أيضًا الرئيس الفرنسى ورئيسة المفوضية الأوروبية والمستشار الألمانى ورئيس دولة البرازيل وزعماء دول المكسيك واستراليا واليابان وذلك لأسباب مختلفة الأمر الذى من شأنه إستمرار المفاوضات على ما هى عليه دون إحراز أى تقدم فى هذه النسخة.
افتتح رئيس أذربيجان إلهام علييف خطابات زعماء العالم بانتقاد أرمينيا ووسائل الإعلام الغربية ونشطاء المناخ ومنتقدى تاريخ بلاده الغني بالنفط والغاز والتجارة، واصفًا إياهم بالنفاق لأن الولايات المتحدة هي أكبر مُنتج للنفط في العالم وليس أذربيجان وأضاف إنه “ليس من العدل” أن نطلق على أذربيجان “دولة نفطية” لأنها تنتج أقل من 1٪ من النفط والغاز في العالم.
وقال علييف إن النفط والغاز “هدية من الله” مثل الشمس والرياح والمعادن، وأضاف قائلا “لا ينبغي إلقاء اللوم على البلدان لامتلاكها لهذه الموارد، كما ولا ينبغي إلقاء اللوم عليها لجلب هذه الموارد إلى السوق وتوفيرها لأن السوق يَحتاج إليها”، وهذا شأن الكثير من زعماء العالم الأمر الذى يُؤكد على تغليب المصالح الشخصية للدول على المصلحة العامة لكوكب الأرض.
ويَرى العديد من القادة أن التقدم سيكون أكثر احتمالا في مؤتمر المناخ القادم فى دورته الثلاثين والذي سيعقد في البرازيل في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 وليس فى هذه الدورة.
ومن جانب أخر فإن ما أفرزته نتائج الإنتخايات الأمريكية وفوز دونالد ترامب والذى يُعرف بأنه من المتشككين في قضية المناخ فقد وصف الجهود المبذولة لتعزيز الطاقة الخضراء بأنها “خدعة”، ورأى العديد من خبراء المناخ أن فوزه يُمثل انتكاسة كبيرة للتقدم فى مسار إتفاقية باريس وذلك بناءً على ما أقدم عليه من إنسحاب أمريكا من إتفاقية باريس إثر فوزه بالإنتخابات فى فترة رئاسته الأولى (2016- 2020).
وتَولت بريطانيا دور الزعامة فى المُحادثات وذلك لغياب الكبار عن الحضور فقد أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عن هدف المملكة المتحدة خَفض الانبعاثات بنسبة 81% عن مستويات عام 1990 بحلول عام 2035، بما يَتماشى مع هدف اتفاقية باريس للحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية (2.7 درجة فهرنهايت) فوق مستويات ما قبل الصناعة، وهى نسبة أعلى من النسبة السابقة (78%) والتي تعهدت بها المملكة المتحدة احرازها من قبل، كما وانخفضت انبعاثات الغازات المُسببة للاحتباس الحرارى فى المملكة المُتحدة بمقدار النصف تقريبًا عن مستويات عام 1990، ويَرجع ذلك فى المقامِ الأول إلى الإستبعاد شبه الكامل للفحم من توليد الكهرباء.
ويَتزامن مؤتمر المناخ فى دورته الحالية مع قمة مجموعة العشرين في دولة البرازيل يومي 18 و19 نوفمبرحيث سيناقش القادة أيضًا الجهود المبذولة لتمويل التحول المناخى ولكن بمعزل عن باقى دول العالم الموقعين على الاتفاقية الإطارية للتغيرات المناخية وما بعدها من اتفافات ومعاهدات،وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالى هل هذا الغياب من الزعماء مقصود أم انها من قبيل المُصَادَفَةٌ ؟
وفى الختام نتطرق إلى ما قاله رئيس وزراء التشيك أمام قادة العالم فى هذا المؤتمر (التعاون الدولي والعمل العالمي والحلول المبتكرة هي مفاتيح حل هذه الأزمة، يتعين علينا إعادة النظر في أولوياتنا في كثير من النواحي ويتعين علينا أن نُساعد بعضنا البعض على تغيير البنية الأساسية لدينا للتعامل مع الظروف الجوية المُتطرفة، عندما أنظر إلى تاريخ الأهداف العالمية أرى العديد من الإخفاقات في العديد من المناطق والأقاليم، من الصعب للغاية الوفاء بالوعود التي تم قطعها ومن غير المرجح أن نُحقق المزيد من النجاح مع أهداف أقوى).
مقال
التغيرات المناخية بين انعقاد المُؤتمرات وتَفعيل التوصيات
أ.د / عاصم عبد المنعم أحمد محمد
استاذ إقتصاديات المناخ الزراعى ورئيس قسم بحوث الأرصاد الجوية الزراعية
المعمل المركزي للمناخ الزراعي
مركز البحوث الزراعية
اقرأ أيضا
د. عاصم عبدالمنعم يكتب .. هل يبدأ العالم الحرب على التغيرات المناخية في قمة باكو ؟