من المعروف أن الثقافة هي مجموع السمات الروحية، والمادية، والفكرية، والعاطفية التي تميز مجتمعًا بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها عن غيرها. وفي عهد العولمة والهجرات الكثيرة حدث تطور وتعارف وامتزاج بين كثير من الثقافات مما أدي إلى ظهور ثقافات جديدة من بينها ثقافة المهاجرين، وثقافة أبناء المهاجرين؛ وهم من يعرفون بأبناء الثقافة الثالثة، اللذين ولدوا أو نشأوا في سنواتهم التأسيسية الأولى في ثقافات غير ثقافاتهم الأصلية التي ينسبون إليها وراثيًا عن طريق آبائهم، فالثقافة الأولى لهم هي ثقافة والديهم التي نشأوا عليها، والثقافة الثانية هي ثقافة المجتمع التي تتواجد فيها الأسرة أثناء نشأة أولادهم، فيتعرض هؤلاء الأطفال إلى مجموعة متنوعة من التأثيرات الثقافية. إذ يتنقل أطفال الثقافة الثالثة بين أكثر من ثقافة قبل أن تتاح لهم فرصة تطوير هويتهم الشخصية والثقافية بشكل كامل فتظهر فئة تحمل سمات ثقافة ثالثة متداخلة ومتطورة للثقافات المكونة لها.
تعتمد أي ثقافة في تكوينها على عدة مكونات أساسية هي: “اللغة وهي وسيلة التواصل والتعارف بين أفراد الثقاقة وهى الرمز الأكبر للإنتماء إلى ثقافة ما، والدين إذ عليه يُبنى كثير من سلوكيات الفرد في ثقافة ما، وأيضا الجماليات وهي تشير إلي كل ما يتعلق بالجمال والذوق الرفيع والتذوق والإحساس السائد في ثقافة ما، وكذا التعليم والمقصود الأفكار والمهارات التى تتداول بين أفراد ثقافة ما، ثم النظام الاجتماعي وبه يتضح الأسلوب والطريقة التى يتعامل بها أفراد المجتمع مع بعضهم البعض ويمثله القيم والاتجاهات؛ وهى مرادف للعادات والتقاليد، وكذا المكون المادي كالأمور المادية التقنية”. ومن هذه المكونات وغيرها تنتج ثقافة مميزة لمجتمع معين أو فئة معينة.
من الجدير بالذكر أنه كما ظهر اختصار لمصطلح أبناء الثقافة الثالثة بصفة عامة على مستوى العالم (T C K) هناك اختصار ومصطلح خاص بأبناء الثقافة الثالثة من أبناء شبه القارة الهندوباكستانية على وجه التحديد والذين نشأوا وقضوا سنوات تكوينهم الثقافي في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن هاجر آباؤهم واستقروا هناك؛ “وهذا المصطلح هو American Born Confused Desi، واختصاره A.B.C.D. ومعناه الأمريكيون من أصول هندية وباكستانية، وتعني كلمة Desi أو ديسي أو ديشي “محلي” بالأردية، ويقصد بها الهنود والباكستانيون الذين يعيشون في أمريكا بعيدًا عن شبه القارة الهندوباكستانية”. وربما يرجع ظهور مصطلح خاص بهم لأعدادهم الغفيرة الموجود بالولايات المتحدة الأمريكية والتى تقارب الثلاثة مليون وهم أصحاب أكبر جالية هناك وربما في دول أخرى مثل دول الخليج العربي.
وكما يتميز أبناء الثقافة الثالثة بمميزات عديدة نتيجة انفتاحهم الفكري وتقبلهم للتنوع، لديهم أيضا بعض الصعاب والمعاناة والتحديات التى تقابلهم في حياتهم. والواقع يقول إن ظهور جيل أو فئة تحمل طابع أبناء الثقافة الثالثة لم يعد مقتصرا على أبناء المهاجرين أو المغتربين؛ فالثقافات المختلفة والمتنوعة تغزو مجتمعاتنا بل وبيوتنا عبر سوائل التكنولوجيا والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يمكن تسميته بالغزو الثقافي. فنجد أبناءنا متابعين وربما مقلدين لهذه الثقافات.
فنجد البيت الواحد والأسرة الواحدة لكل فرد منها جزء ثقاقي مختلف عن باقي أفراد الأسرة سواء في اللغة، التعليم، البناء الفكري، النظرة للعادات والتقاليد المجتمعية، التعبير عن المشاعر، الملبس، والمأكل وغيرها من مقومات الثقافة المعروفة.
وسواء كان أبناء الثقافة الثالثة نتاج للهجرة أو للغزو الثقافي نجدهم يتسمون بمميزات ويعانون من صعاب، وما بين هذا وذاك يأتي دور الأسرة والمجتمع والمؤسسات المنوطة بالأمر؛ دورها في تقوية أواصر الترابط بين الأجيال الجديدة وثقافتنا الأم، وإظهار كل ما هو جميل فيها.
في الوقت الراهن أصبح استخدام هذا المصطلح أكثر من قبل بسبب الزيادة المستمرة في عدد هذه الفئة. وتشير الدراسات إلى أن أبناء الثقافة الثالثة لهم مميزات يتميزون بها، ولديهم تحديات لابد من قبولها والتعايش معها أو إيجاد حل لها. من هذه المميزات: العقلية المتفتحة، قبول الآخر، الاستمتاع بالتنوع، وتكوين علاقات وخبرات، كما أن لهم نظرة عالمية واسعة، ولديهم مستوى عالِ من التكيف والتأقلم مع الأوضاع، والاستعداد للسفر والترحال.
ومن أصعب التحديات التى تواجه أبناء الثقافة الثالثة مشكلة الانتماء والولاء والمفهوم المشتت للوطن، وكذلك نظرة أهل الثقافتين الأصليتين إلى أبناء الثقافة الثالثة التى أكتسبوها من حيث انتمائهم إلي أيهما بشكل أساسي. وأزمة الهوية لديهم والتى يُنظر إليها في علم النفس على أنها الفشل في تحقيق هوية الأنا خلال فترة المراهقة، وهي نفسها الفترة التى يتكون فيها ثقافة أبناء الثقافة الثالثة،،،، وللحديث بقية،،،،
مقال
د. نها مصطفى محمود سعد
أستاذ مساعد بقسم اللغة الأردية وآدابها
كلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر القاهرة