نجح برنامج «شاعر المليون» على مدى دوراته السابقة في تعزيز جهود صون الشعر النبطي والحفاظ عليه، وبخاصة أنّه يُعد الرافد الأساسي للشعر والشعراء في الوطن العربي، بل وأصبح مقياساً مهماً لشاعرية الشاعر ومدى قبوله لدى الجمهور.
ويثبت الإقبال الذي لاقاه الموسم الـ 11 أنّ المسيرة الثقافية والفنية والشعرية للبرنامج لها أهميتها على الساحة الشعرية كما أنّ البرنامج مستمر في عطائه الشعري، واستطاع تحقيق مكانته المميزة بفضل الدعم اللامحدود من قبل القيادة الرشيدة لمشاريع صون التراث والتشجيع على مواصلة تعزيز ثقافة الحفاظ على هويتنا الوطنية ورصيدنا الحضاري.
وتزامناً مع قرب مقابلات شعراء “شاعر المليون” لهذا الموسم، تم اجراء استطلاع للرأي مع نخبة من الشعراء حول الأبحاث والدراسات النقدية التي تناولت موضوع مطالع القصائد عند الشعراء، وذلك لأهميتها كونها تمثل الشاعر وعامل جذب للقصيدة وأول انطباع يتشكل لدى المستمع والقارئ.
ويقدم نخبة من الشعراء آرائهم للتعرف أكثر على ما تشكله المطالع الشعرية وتحولاتها من جوهر وقيمة للقصيدة، وهنا عاد بعض الشعراء للتنقيب في تاريخ المطالع وأهميتها، بينما كشف آخرون عن أي مطلع ذاك الذي يبحث الشاعر عنه لحظة شروعه بكتابة قصيدته، وإلى أي مدى تلعب تلك المطالع دورًا في كتابة قصيدة مميزة، تستطيع جذب انتباه المتلقي أو القارئ إليها، خصوصاً عند قراءتها في المهرجانات والمناسبات الشعرية الكبرى.
تقرأ في هذا الموضوع
البحث عما يشد الحواس
تحدث الشاعر طارق الصميلي عن أهمية المطلع الشعري وما يأتي بعده أيضاً، وعلل ذلك بسبب ضرورة جذب انتباه القارئ أو المستمع؛ وقال: (ما زال هاجس الشعراء منذ القدم كتابة قصيدةٍ خالدة، وما زال بحثهم مستمرًا عن القصيدة التي لم تُكتب بعد والمطلع الذي لم يضئ في ذهن أحدهم. والمطلع العظيم قد يكون مدخلاً لنصٍ تزداد عظمته مع استرسالنا في قراءته، وقد يكون فخًا وقع فيه الشاعر ولم يستطع تجاوزه إلى سماواتٍ أرحب، فتجد النص بدأ يميل إلى الضعف في أبياته التالية حتى يمله القارئ والمستمع والشاعر. والمطالع العظيمة تفرض حضورها، فحين تُلقى يعم الصمت وتتحرك الآذان في اتجاه مصدر الصوت القادم كهبةٍ من الغيب “السطر الأول هبة الغيب” تسحر شاعرها حين الكتابة حتّى يظن أنّ نافذةً فُتحت ليُوحى له منها فيأتيه “السطر الثاني شعراً أو خيبة أمل”.
لذلك على الشاعر أن يهتم بما بعد المطلع، ومن هنا يمكنه التحكم باستمرار النص متصاعدًا في عظمته وجماله والتحليق بجوار هذه الهِبَة أو أن يهوي به في قعر سحيق. فالموهبة وحدها لا تكفي، بل عليه أن يعمل على نصه من بيته الثاني حتى الأخير وكأنما يكتب مطلعًا جديدًا في كل مرة. وتزداد أهمية المطالع في المهرجانات والمسابقات الشعرية، فهو ما يمنحك انتباه المستمع وعلى أساسه سيقرر متابعة الانصات إليك أو التشاغل حتى يشده مطلعٌ سوى مطلعك. والمحافظة على انتباههِ حتى الرمق الأخير من القصيدة مهمٌ بقدر أهمية جذب انتباههِ في مطلعها. واليوم مع انفجار المعرفة وسهولة الوصول لها يصبح أمر اختيار القصيدة أصعب على القارئ والمستمع، فلا وقت لديه ليضيعه في ظل زحام المعلومات، وإن لم يواصل النص في شدّه هجره إلى غيره.
أذكر أن الجواهري سُئِلَ عن ضعفٍ في بعض أبيات قصائده فأجاب، أن الأبيات الضعيفة عتبات للبيت القوي! وفي زمننا نحن بحاجة لكثرة الأبواب في القصيدة فالعتبات تشعر القارئ والمستمع بالملل وتدفعهما نحو نصوصٍ أجمل وأعذب مليئة بما يشدّ الحواس إليها. الإلهام وحده لا يكفي الشاعر في عملية خلق القصيدة، فالروافد الثقافية مهمة جدًا حتى يجاري الشاعر هبة الغيب في قصيدته، فكلّما أجاد كتابة سطره الثاني بشاعرية عالية كان قادرًا على كتابة مطلعه العظيم بعيدًا عن يد الغيب. والشعر مزيجٌ من الموهبة والصناعة، فإذا توفرتا لدى من يجيد تغذيتهما وتوجيههما توجيهاً مثالياً كان أقرب للقصيدة العظيمة من مطلعها لختامها. والدربة غاية في الأهمية، فالقصيدة تَأتِي وتُؤتَى، فكلّما تردد الشاعر عليها كثيرًا كان أعلم بدروبها، أطولها وأقصرها، موحشها وأجملها. والقصيدة بدورها تألف شاعرها لكثرة وقوفه بأبوابها فتشرعها له. وأنا أبحث عن مطلعٍ لم أُسبق في معناه ولا أعلم هل وفّقتُ في ذلك أم لا.. لكن هاجسي أن يكون معنى جديدًا سلساً أمنح به النص تذكرة العبور للمتلقي).
بوابة العبور إلى القصيدة
أما الشاعر محمد الحمادي فيرى أن المطلع هو بوابة العبور للقصيدة، ومنه يتنبأ المتلقي بغرض القصيدة ومضمونها العام. ويكمل: (في العصر الحديث يختلف المطلع تمامًا عنه العصر الجاهلي، وهو يعطي المتلقي انطباعًا عن غرض القصيدة والمعنى الذي سيتجه إليه الشاعر في قصيدته، فهو كالصورة الشاملة، فإن أبدع الشاعر في التقاطها جذبَ إليه العقول وشدّ انتباه أهل الأذواق. وأرى أنّ العلامة التي يُستدل بها على جودة المطلع هي أن يدل على المعاني التي ستأتي بعده، كما قال أبو تمام: السيف أصدقُ أنباءً من الكتبِ **في حدّهِ الحَدُّ بينَ الجِدِّ واللعبِ
فالمطلع يُنبئك من أول وهله بغرض الشاعر من كتابته للقصيدة. وأنصح كل شاعر أن يبتعد في مطلع قصيدته عن المطالع المستهلكة، وأن لا يتكلف ويُجهد نفسه بالتفكير المبالغ فيه في اختيار المطلع، لأن الشعر حديث النفس، وإذا جعلنا العقل يقود العاطفة مالَ إلى الصنعة، فلا أرى كثرة التفكير في اختيار المطلع حتى لا يميل إلى الصنعة.
ومن هنا استحضر من الذاكرة تعليقًا لعضو لجنة التحكيم الشاعر والاستاذ حمد السعيد في تعقيبه على قصيدتي التي شاركت بها في منافسات برنامج “شاعر المليون” في نسخته التاسعة، عندما قام بالثناء على اختيار المطلع إذا قال: يعجبني الشاعر الذي يدخل في موضوع القصيدة مباشر.. وهي القصيدة التي كان مطلعها كالآتي:
حسان بن ثابت وقوفي وقوف إجلال وإعجاب
باسمك بديت استنطق الجزل من بعد الرتبة!
وبخصوص المطالع المستهلكة فيأتي بين الحين والآخر من يثور عليها ويغيّر قواعدها آتياً بالجديد، نستذكر مطالع الوقوف على الأطلال التي كان لها رواج كبير بين شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، حتى أتى شعراء واستنكروا على الشعراء التكرار وتقليد من قبلهم، ولعل أشهر من قاد حركة التغيير ضد المطالع المستهلكة الشاعر أبو نواس الذي قال: قل لمن يبكي على رسمٍ درس!
واقفًا ما ضرّ لو كان جلس!
وفي الشعر النبطي المعاصر نجد أن المطالع المستهلكة أخذت بالانحسار في الفترة الأخيرة، بعد موجة من السخرية ظهرت من شعراء التواصل الاجتماعي الذين لا تحدهم قيود وحدود!
أما عن تجربتي الشعرية في اختيار مطلع القصيدة، فأنا أرجئ اختيار المطلع حتى أفرغ من كتابة صدر القصيدة وخاتمتها وأختار بعد ذلك مطلعاً يتناسب مع موضوع القصيدة، فليس من الضروري أن يكون المطلع أول ما يقوم الشاعر بكتابته).
وعي وثقافة الشاعر
ويتفق الشاعر ثابت الدهام مع من سبقه حول أهمية المطلع فيؤكد أن مطلع القصيدة هو الشرارة التي تفجر القصيدة بذهن الشاعر، وبالتالي فهي تلعب دورًا أساسيًا في بناء القصيدة والحفاظ على موضوعيتها، ويرى أن مطالع القصائد بشكلٍ عام تعبر عن وعي الشاعر وثقافته وحالته الوجدانية، لذلك يعد مطلع القصيدة وجهها الذي إن كان جميلاً وجذابًا جعل المستمع يصغي إلى باقي أجزاء القصيدة والعكس صحيح أيضًا. ويكمل: (برأيي أن المطلع بالذات هو البيت الأكثر ميلانًا لفطرية الشاعر والأكثر تعبيرًا عنه، ولذلك نجد أن كبار الشعراء سابقًا يبدؤون بمطالع يذكر فيها الشاعر اسم علم أو مكان أو زمان معينين، وهذا يعني أن الإحساس أكثر نقاءً ووضوحًا في البيت الأول من القصيدة أي المطلع. ومن الأمثلة على ذلك قول الأعشى: ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ ** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل.. وهنا ذكر الشاعر محبوبته وكان صوت العاطفة في هذا المطلع واضحًا وصريحًا ويعبر عن حالة الشاعر بصدق، ومن الأمثلة على ذلك قول أمرئ القيس: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ / بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
هنا ذكر الشاعر ذكريات مضت على الأطلال في زمانٍ قد فات وبدأ به القصيدة ولا يمكن لهكذا مطلع إلا أن يكون صادقًا. وأخيرًا وليس آخراً نرى مطلع قصيدة الخنساء في رثاء أخيها صخر: أعينيّ جودا ولا تجمدا/ ألا تبكيانِ لصخرِ الندى
وما هذه الأمثلة إلا دليل على أن مطلع القصيدة هو المفتاح الذي يستطيع فك أقفال القصيدة والفكرة الأولى التي تنبثق منها باقي أبيات القصيدة. وعلى صعيدٍ آخر فقد اعتاد العرب قديمًا أن يستهلوا قصائدهم بأبيات غزلية، ومن أشهر الأمثلة على ذلك قول كعب بن زهير في مطلع قصيدة البردة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: بانت سعادٌ فقلبي اليوم متبولُ/ متّيمٌ إثرها لم يفدَ مكبولُ
ولعل الشعراء في مثل هذه المطالع يستدرجون العاطفة إلى غرض القصيدة الأساسي، لذلك أعتقد أن مطلع القصيدة في كل الأحوال هو وجه القصيدة ولسانها وكلمتها الأولى. أما عن ماذا يبحث الشاعر في مطلع قصيدته، فهنا أرى أن مطلع القصيدة هو من يبحث عن الشاعر، فكما ذكرت سابقاً أن المطلع هو الشرارة التي تفجر القصيدة في ذهن الشاعر، لذلك يحتاج الشاعر إلى موقف معين أو شعور ما حتى يحاكي موهبته ويُطلق الشرارة الأولى للقصيدة.
التجديد في شكل القصيدة العربية
وفي سياق متصل تحدث الشاعر مبارك سيد أحمد عن أهمية المطالع الشعرية، مبينًا ذلك من خلال الاستشهاد تاريخيًا بأهم التحولات التي نالت القصيدة العربية. يقول: (المطلع هو أول ما يتجلى من ملامح القصيدة للمتلقي، ومن هنا تأتي قيمته وأهميته بالنسبة للقصيدة العربية؛ ولهذا فإن الشاعر الماهر هو الذي يدرك يقينًا أهمية المطلع بالنسبة له، ولعمله الأدبي. فهذا البيت الشعري الذي سيجعله مفتتحاً لقصيدته يكاد يكون الطعم المنوط به أن يثير فضول ذائقة القارئ، ولو أن هذا الطعم لم ينجح في لفت انتباه ذائقة المتلقي، ما استطاع الشاعر أن يحظى بإعجاب أو حتى باستماع الجمهور له.
ربما لهذا السبب قد سخر الشاعر العربي القديم مطلع قصيدته للتحدث عن أهم قضاياه، وأبلغ جراحه العامة في ذلك التوقيت. فقد كان الشاعر العربي كسائر من حوله مضطرًا إلى التنقل والترحال من مكان لآخر، بحثاً عن العشب والماء، ولأن الانتقال من مكان لآخر كان سمة غالبة على الحياة وقتئذ، فقد جعل الشاعر العربي من هذه السمة مطلعًا لكل قصائده، فالوقوف على الأطلال ومناجاة الأحبة هو المستهل الأمثل الذي دأب على استعماله الشعراء في هذا الوقت. الناظر بتمعن إلى الحياة البدوية وارتباطها بالتنقل والارتحال، يستطيع أن يتفهم الشاعر العربي الذي جعل من البكاء على الأطلال، أو مناجاة أحبته مستهلاً يبدأ به قصيدته، بغض النظر عن موضوعها الرئيس، وكأن القصيدة العربية تقول لنا: (إن هناك جرحًا غائرًا في صدر كل عربي عاش في هذه الحقبة الزمانية، وهذا الجرح هو فراق الأحبة، وتوديع المكان الذي ألفه الإنسان العربي بشكل اضطراري فرضته طبيعة الحياة في هذا الوقت). وفي العصر العباسي تحديدًا ثار بعض الشعراء على فكرة تكريس مطلع القصيدة العربية للبكاء والوقوف على الأطلال، وقد كان أبو نواس على رأس هؤلاء الشعراء المجددين، حتى أنه أعلنها صريحة حينما قال: (قل لمن يبكي على رسم درس** واقفًا ما ضرّ لو كان جلس).
ربما كان شعراء العصر العباسي أصحاب حق في ثورتهم على فكرة استهلال القصيدة بالوقوف على الأطلال، ففي العصر العباسي كان الناس قد تعرفوا على الاستقرار، وانفتحوا على ثقافات جديدة، مما دعاهم إلى التجديد في شكل القصيدة العربية، ابتداء من مطلعها. وما أجمل ذلك المطلع الذي قاله المتنبي، بعد الخروج من شرنقة الوقوف على الأطلال: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا **وحسب الأماني أن يكن أمانيًا
بالنسبة لي شخصيًا، فإن الأمر لا يخلو من البحث العميق عن مطلع شيق يجذب انتباه القارئ، ويستولي على فضول ذائقته، مع ضمان ارتباط المطلع بموضوع القصيدة حفاظًا على الوحدة العضوية لمجمل العمل، وقد يحدث هذا الأمر من تلقاء نفسه، ومع الشرارة الأولى التي تتقد في ذهني لحظة تنزل القصيدة، وقد يستغرق الأمر وقتاً أطول بكثير، فأجدني قد عثرت على المطلع الأنسب بعد الانتهاء فعلياً من كتابة القصيدة، وهذا هو مطلع أحدث قصائدي: (أفلِت سمائيَ من أيادي الفِكرَةْ فالشعرُ يركضُ بي، ويبسطُ حِجرَهْ!
للشعر ألفُ يدٍ، فهل من شاعرٍ منا تحكُّ له القصيدةُ ظهرَهْ؟!).
نقلاً عن العدد 200 من مجلة شاعر المليون