أنه الأستاذ يحيى حقي
في البداية لابد من نبذة عنه يرجى ممن يجهله من أبناء جيلي والجيل الذي يليني أن يقراءها ، فسمة وقتنا الحالي هو جهلنا الكبير بالمعارف الضرورية والإعلام والوقائع المصرية.
يحي حقي هو رائد كتابة القصة القصيرة في مصر، من مواليد القاهرة عام 1905م، تخرج في كلية الحقوق والتحق بالعمل في النيابة، ثم تركها وعمل في المحاماة ليتركها ويلتحق بعمل إداري في الدولة، ثم ألتحق بوزارة الخارجية المصرية وتدرج في المناصب حتى شغل منصب سكرتير أول للسفارة المصرية في فرنسا، ثم مستشارا في سفارة مصر بتركيا، ثم عين وزيرا مفوضا في ليبيا عام 1953م حتى أقيل من وزارة الخارجية عام 1954م بسبب زواجه من أجنبية، ليعود إلى مصر ويعين مديرا عاما لمصلحة التجارة الداخلية بوزارة التجارة، ليتنقل بعدها بين الوظائف والوزارات حتى قدم استقالته من العمل الحكومي عام 1959م، ليعود عام 1962م ويتولى رئاسة تحرير مجلة “المجلة المصرية” الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب حتى عام 1970م، ليعتزل بعدها العمل الصحفي والشأن الثقافي حتى رحيله عن عالمنا عام 1992م، بعد حياة حافلة كتب فيها العديد من المقالات والقصص التي تحول بعضها إلى أفلام سينمائية مثل “قنديل أم هاشم” و”البوسطجي” ومنها ما تحول إلى دارما إذاعية مثل “صح النوم”.
ومن ضمن أعماله الأدبية التي أسعدنا بها من خلال أسلوبه في السرد والوصف البديع للأماكن والأحداث والأشخاص عمله الظريف اللطيف “وجدت سعادتي مع الحمير”، التي كتبها بعد عشرة طويلة مع الحمير على حد قوله، عشرة امتدت لسنوات مع حمير العاصمة في القاهرة وحمير المحافظات التي كان يتنقل بينها.
ومن ضمنهم محافظة أسيوط التي مكث بها زهاء العامين، حين كان يشغل وظيفة معاون إدارة بمركز منفلوط.
حصد عدد من الجوائز والأوسمة الرفيعة نظرا لمكانته الأدبية واسهامه في الحياة الثقافية، ففي عام 1969م حصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب، وعام 1983 منحته فرنسا وسام الفارس من الطبقة الأولى، كما حصل على جائزة الملك فيصل العالمية فرع الأدب العربي عام 1990م.
وبعد ما تعرفنا على شخصية الرجل بعرض سيرته ومعرفة قدره وقامته، حان وقت السؤال..
لماذا وجد يحيى حقي سعادته مع الحمير؟!
وبعد مطالعة ما كتبه نجد الإجابة تتلخص في الآتي:
أولا من حيث شكل الحمار
جسمه محندق كده ما بياخدش حيز كبير من الفراغ، ضهره في مستوى إيد البني آدم، وزنه خفيف بيساعده على نزول المنحدرات وصعود المرتفعات بسهولة ويسر بالمقارنة مع بقية البهايم أمثال الجاموس أبو حوافر مبرطشه.
عيونه غير عيون باقي الباهيم، مثلا البقرة عيونها غارقانه في أحلام لذيذة، والجمل عيونه بتراقب الدنيا من فوق بتوجس وغضب مكتوم، وللحصان عيون تنم عن الإعجاب بالنفس والإحساس بالنبل والذكاء، وللتيس عيون فيها كل العناد وإضمار الخبث والمؤامرات، وللجاموس عيون مطفية خالية من الحياة أو الإرادة.
أما الحمار فعيونه ذليلة حزينة مغرغرة بالدموع.
صوته مليان حُرقة ومرارة مش هتلاقيها في صوت حيوان تاني، صرخة عذاب واستغاثة وإشهاد للناس على حالِه بنوبة متفجرة من البكاء بلا دموع، لأنه أدرك إنه دونا عن بقية البهايم كلها هو الوحيد اللي وقع من قعر القفة، وبالتالي قبوله بقدره وحاله مش عن عمى منه أو غفلة، ولا تدليس وتحايل عليه؛ لأ.. ده قبل به عن بصيرة وفهم بعد ما وازن بين حيلته وقدرة ظالمه، فبذكائه العملي وصل لقناعة أن الأمل مات، ومافيش فايدة مرجوة من الثورة أو التمرد والعصيان والتحدي والعناد.
فحط همه جوه بؤه.. وكتم فَرحُه وحُزنُه.. ولِعبُه وجَدُه.. وحُبُه وكُرهُه جوه قلبه وردم عليهم، طاطا راسه ودلل ودانُه وشال الحِمل على ضَهرُه في استسلام تام بلا شروط أو قيود، سايب صاحبه يسوقه زي ما يسوقه، ويروح بُه مطرح ما يروح.
أما معدته تطحن الزلط مهما أكل برسيم مندي عمر بطنه ما تتنفخ زي الجاموس.
ثانيا من حيث مهارات وقدرات وملكات الحمار
ماعندوهش أزمة في الحموم لما بيعوز يستحمى ما بيجرجرش صاحبه على الترعة جَر زي باقي الباهيم علشان تبلبط في الميه، من غير دوشه كده هو بينضف نفسه بنفسه؛ بحمَّام مرمغة في التراب مُعتبر يشيل كل الجَلَخ اللى على جِتِتُه.
عارف طريقُه، أستاذ في حفظ الطرق، بيقدر يتحسسُه ويعدي من المآزق ويثبت عند المزالق، مُتَشَمّْم وبَصْيِر بالمطبات بيعرف إزاي يمشي ما بينها، وإزاي يمشى على حافة الطريق، وإزاي يمشي على شظايا الأحجار الحادة، سيقانه مطوعاه ولا كأنها أعواد خيزران، مُنتظم مع سير القافلة مايسبقهاش ومايربكهاش ولا يجمح ويشرد بعيد عنها.
عنده قوة تحمل على الجري، والشيل والحط، والصبر على الأوجاع والأمراض علشان كده تلاقيه قليل الشكوى.
دونا عن باقي البهايم تلاقيه غلبان تمنه رخيص، بيبلع الإهانة زي ما بيبلع ريقه، فين وفين لما يُرّْفُس، ولا يطلع يَرّمَح زي المجنون. بس ساعات بيقدر ينهش حقه المهضوم أول ما الفرصة تجيله عالطول، لما يعدي عليه جمل محمّل بالبرسيم قوام يكشر عن سنانه الغليظة وينهَش اللي يطوله نَهشَة مُعتبرة، يعبر فيها عن غيظه وفوزه.. باستخلاصه حق من حقوقه الطبيعة في الحياة المسلوبة منه بالقهر والغصب.
ثالثا الرتب والدرجات ما هو زي ما الناس مقامات فالحمير هي كمان درجات.
أدناهم حمير السباخ، بيشيل السِباخ اللي بيسمدوا بيه الأرض الزراعية، والسِباخ عبارة عن خليط من التراب ومخلفات الباهيم “الجِلة”، والنوعية دي من حمير السُخرة مابيتطلبش منها الجري لأن الكِبَر والضَعف والجَرَب والمَرض خلاص عَجِّزها، فبقت عايشة على هامش الحياة لا تسمع لها حس ولا خبر.. ولا حتى أنين يدل على أنهم بالحياة شاعرين.
حمير الأجرة ودي درجة أعلى.. يركبها كل من هب ودب، حمير ماتعرفش طعم الراحة، قوتها بتستنزف إلى آخر قطرة، أكلها بيتحطلها على قد الجهد اللي بتبذله مش على قد جوعها واحتياجها، وهي أكتر الحمير إصابة بالجروح وبالأخص في منطقة سلسلة الضهر تحت البردعة، معالم حياتها واضحة ومحددة أولها المِعَلِم اللي بتخافه وبتكرهه وتطيعه في خضوع وذل تام، حتى ولو عملت ودن من طين وودن من عجين، تانيها صبي المعلم المذلول هو كمان، اللي الحمار بيقدر عليه يسترد شوية من بعض إرادته قدامه، لأن أذية صبي المعلم رغم قسوتها اللي بتزيد عن قسوة المعلم، إلا أنها مابتوصلش لدرجة الإرهاب اللي بيمارسه المعلم الظالم الجبار على الحمار، وده اللي بيتيح للحمار دفاع جاهز لكل هجوم من صبي المعلم عليه، وكتير بينتصر الحمار على صبي المعلم ويرغمه على الرضى بجهده القليل، فما يطلبش منه جهد أزيد من كده.. حتى لو هو يقدر على كده.
أما ثالث المعالم وآخرها فهو الطريق بمجرد ما يتحط على أوله بيعرف فين آخره، فتحس من مشيته وحدها إذا كان المشوار طويل ولا قصير، لأنه ابن سوق.. التجارب وَدِّكِتُه والأيام حَنِكِتُه وعَلِمِتُه المَكْر والتَحْوِّير.
حمار الفلاح درجة أرقى من اللي فاتوا، لأنه ركوبة خصوصي، ضخم الجثة أحيانا قلبه طيب وديع وساذج، بسبب عيشته في أحضان الأسرة كواحد من أفرادها، حتى ولو كانوا بيعانوا كلهم من فقر الحال، مش محتاج من صاحبه زجر ولا تشجيع علشان يبذل جهد، هو بيبذل كل جهده عن طواعية، لأنه مُّوَلِّف على طبع صاحبه، ويمكن يكون ده السر ورا اضطرابه أول ما حد غيره يفكر يركبه.
وأخيرا قمة الدرجات حمار البشاوات ولاد الذوات.. ودي حمير متربية على الغالي، تعليم مدارس؛ تلاقي الرقبة منتصبة والراس مرفوعة، الخطوات راقصة.. من علَامُه وتدريبه في المدرسة، الحمار أبو عيون مكحلين وبردعة جلدها ثمين وزينة فخمة عليها القيمة.
حمير القاهرة تلاقيها في العاصمة
زيها زي حمير المحافظات في المقامات والدرجات.. فيها حمير الذوات والحمير الشعبية، فيها اللي بيكون ركوبة خصوصي وفيها اللي قَدَرُه يجُر عربية كارو.
ومن حيث شكلها حمير الناس البشاوات ولاد الذوات بتختلف عن حمير الريف في قصة شعرها الشيك المزخرفة مع البردعة الفخمة والرشمة الفضة اللي بتتهز على صدرها.
وأخيرا حمار السيرك
وهو آخر أصدقاء يحيى حقي على حد قوله علشان كده قال فيه أشعار ووصفه أنه أذكاهم وأخف دم فيهم، وأكتر واحد منهم بيولف على ابن الإنسان بسرعة، وحمار السيرك تقدر تعتبره سلالة متطورة من حمار الحاوي إللى كان بيدخل الحواري وبيعمل نِمَر، فيختار عروسة من البنات الحلوة اللي واقفة تتفرج عليه لما صاحبه يطلب منه، ويعمل كم نمرة كده ما صاحبه الحاوي.
أما حمار السيرك مافيش حد بيقوله لازم يعمل إيه زي ما بيقولوا لبقية حيوانات السيرك، هو حافظ دوره كويس ومش محتاج توجيه، بيدخل يعمل نِمرِتُه ويلعب لِعبِتُه مع زُمَلَاتُه البشر اللي في السيرك، يتصارع معهم ويتصارعوا معه، وكل ما التصفيق والصفير يعلى نشاطه وجموحه يزيدوا لحد ما يتغَلِب على كل المتصارعين معه في الحلبة، ويطردهم كلهم بره ويلف في تباهي ياخد تحية الجمهور على بطولته، وبعدها طوالي يجرى بسرعة علشان يخرج زي ما دخل.
يتبقى لنا نوعية واحدة من الحمير يحيى حقي ماذكرهاش، وهي حمير الساقية أو المعصرة أو المطحنة، ويمكن يكون السبب في عدم ذكرها إن الشغلانات دي كانت في غالب الأحيان من نصيب البغال والتيران.
ويختم يحيى حقي قصصه عن الحمير التي وجد سعادته معها بأنه لما يرى في أوربا سيركا واحدا يضم برنامجه لعبة الحمار، فهي من الأمجاد الخاصة بالسيرك المصري وحده.
رامي أبو راية
مخرج وسيناريست
متخصص في الأنثروبولوجيا البصرية